ينبغى أن تكون الثورة قد وصلت إلى عقلك أيضا، وليس إلى وجدانك فقط! هل يصح بعد الثورة أن تسلم عقلك لكل من يزعق أعلى منك ويدعى أنه أكثر ثورية منك؟ ألا ينبغى أن تدرك أن الانفعال والحماس ضروريان لإشعال ثورة، لكنهما ليسا كافيين بالضرورة لتحقيق أهدافها؟ ألا ينبغى أن تبدأ فى التفكير فى كل خطوة تخطوها بشكل علمى عقلانى، لكى لا تكتشف أنك أضعت دماء الشهداء بعدم قدرتك على رؤية الطريق تحت قدميك؟...
عندما يقول لك أحد: مشكلة هذه الثورة أن الثوار لم يحكموا، ولو حكموا لكانت ثورة بحق وحقيق، بالطبع ستعجبك المقولة لأنك محبط من العسكر وأخطائهم، أنت تريد عدالة ناجزة ونظاما جديدا، ومصر مختلفة عن مصر مبارك التى طلعت روحك، وأنت تعيش فيها ربما منذ ولدت، لكن قبل أن تردد هذه المقولة وتتخذها ذريعة لكل ما تراه حولك من أخطاء، بدلا من أن تفكر فى نصيبك من المسؤولية عن بعض هذه الأخطاء.. ألا يجب أن تسأل نفسك: كيف كان يمكن للثوار أن يحكموا؟ أنا آسف، هناك سؤال لا بد أن يسبق ذلك: من هم أصلا الثوار الذين كان يمكن أن يتسلموا الحكم فى حالتنا؟ إذا كنا لم نتفق على إدارة منصة واحدة فى التحرير، فهل كنا سنتفق على حكم دولة؟ تخيل أنه لم يكن هناك لا بيان ألقاه عمر سليمان ولا مجلس أعلى للقوات المسلحة فى حالة انعقاده، ولا شىء من كل ما جرى بعد 11 فبراير، تخيل أن الثوار دخلوا على مبارك وأسرته قصر العروبة، وقاموا بجرهم بالبيجامات إلى السجن لكى يحاكموهم محاكمات ثورية، وقرر الجيش أن يعود إلى ثكناته ويكتفى بمهمته فى الدفاع عن الحدود، تخيل مصر وهى تعيش من غير سلطة تضع يديها على مقاليد الأمور فى الدولة.. أنت متضايق من كل ما حدث فى الشهور الماضية من عنف وانفلات أمنى وجرائم، طيب اضرب كل ذلك فى مئة فى أحسن الأحوال، ستقول لى الآن كلاما عميقا فى ثوريته من نوعية ما احنا كنا عايشين من غير الداخلية، ونقضيها لجان شعبية وكده، طيب عندك حق، نحن فى ثورة والثورة كما تفهمها أنت تغيير جذرى فورى، يعنى لا بد أن يدير الثوار بأنفسهم كل مؤسسات الدولة، وماله، طيب من الذى كان سيوزع المهام ويضبط الإيقاع ويمنع الصراعات؟ يلزمنا رئيس، لن نلجأ طبعا إلى دستور ما قبل الثورة، ونحضر رئيس مجلس الشعب المزور أو رئيس المحكمة الدستورية العليا، سنفعل ما قاله البعض وننتخب مجلسا رئاسيا مدنيا، لكن من سيضم هذا المجلس؟ كيف سنختاره وكيف سنتفق عليه؟ هل سيكون نصيب الإخوان بشعبيتهم، كنصيب حزب معارض صحيفته توزع بالكاد سبعة آلاف نسخة؟ كيف سيتم اتخاذ القرارات، بالأغلبية أم بالإجماع؟ من سيكون رئيس المجلس؟ آه طبعا سنختار رجلا ثوريا رائعا، طيب والشعب ألن تكون له كلمة فى اختيار هذا الرجل وزملائه؟ أم نحن الذين سنختار له لأننا أدرى بمصلحته؟ طيب لنفرض أننا، والحمد لله، كثوار على قلب رجل واحد، ولدينا تصور متطابق لإدارة البلاد، ولدينا كفاءات مؤهلة متناغمة تستطيع أن تحل محل جهاز الدولة العتيق الذى لا يعرف إبليس نفسه دهاليزه؟ ماذا لو لم يتفق رئيس مجلسنا مع زملائه، أو أنهم اتفقوا لكن لم يوفقوا فى عملهم بسبب الصعوبات التى تكتنف أى فترة انتقالية تعقب أى ثورة مثل الاختلال الأمنى والظروف الاقتصادية والخلافات السياسية والاستقطاب الفكرى؟ وبسبب ذلك شعر فريق من الشعب يصل عدده إلى الملايين أو حتى مئات الآلاف أن الوضع لم يعد يحتمل، وخرج إلى الشوارع ليثور على السلطة الثورية التى جابت له الخراب، مطالبا إياها أن ترحل، وحدثت بين الثائرين الجدد والثائرين القدامى مصادمات كالتى شهدتها أغلب الثورات الكبرى، كيف سينتهى الأمر وقتها؟هناك سيناريوهان، السيناريو الأول هو أن ينزل الجيش إلى الشوارع ليفرض عقد انتخابات، لأنه لن يستطيع الحكم بنفسه بسبب الوضع الدولى الذى لن يتعايش مع الحكم العسكرى، وعندها سينتقم الشعب من الثوار مستخدما الديمقراطية التى ثاروا من أجلها. السيناريو الثانى أن نشهد ما يطلق عليه فى تاريخ الثورات ظهور الطاغية الذى تفرضه حالة الفوضى المتداعية، وإذا كان ظهور طاغية مثل نابليون فى مجتمع كالمجتمع الفرنسى استغرق سنوات عديدة، ففى حالة مجتمعنا الذى تحن الملايين فيه إلى أيام الاستقرار الراكد، فإن هذا الطاغية لن يجد صعوبة فى التحالف مع رموز النظام القديم، وفرض نفسه من خلال صناديق الانتخابات، وسيستغل شرعيتها فى ضرب كل من يعارضه، وهنا سيجد الثوار أنفسهم معرضين للمصير الذى يلقاه الثوار عادة فى الثورات الكبرى: غياهب السجون ولا أقول حبال المشانق، فنحن نعيش فى عصر سيجعل ذلك صعبا.
أنا أزعم، وليخطئنى المتخصصون فى تاريخ الثورات أننا محظوظون بشكل مدهش مقارنة بثورات كبرى عديدة، على الأقل حتى الآن، لن يتسع الوقت لمقارنات عديدة، فقط سأسألك هل يمكن أن تقارن ما حدث لدينا من انفلات أمنى بما شهدته لندن فى شغب ثلاثة أيام فقط؟ نعم يمكن أن نتحدث من هنا لغاية الصبح عن أخطاء المجلس العسكرى (تباطؤه فى ملف المحاكمات والقصاص للشهداء، واختياره الأشخاص الخطأ، وإصراره على إبقائهم بشكل مستفز، والمحاكمات العسكرية للمدنيين، والتعامل المفرط فى القسوة مع الثوار، والمعاملة المرفهة للفاسدين، وعدم اتخاذه قرارات حاسمة إلا عقب مليونيات واعتصامات، مما أعطى انطباعا بحتميتها وجعلها وسيلة العمل السياسى الوحيدة لدى الثوار الراغبين فى رؤية إنجاز)، لكن هل سنصلح هذه الأخطاء بالسير قدما فى طريق الصراع، أم أن لدينا طريقا كان ينبغى أن نسير فيه منذ البداية: طريق الديمقراطية التى يخاف البعض من نتائجها، ناسين أن ضمانتها الحقيقية تكمن فى الملايين التى خرجت إلى ميادين التحرير، تلك الملايين التى لم تجتمع إلا على أهداف محددة، فلما غامت الأهداف غابت الملايين، وبقينا أسرى للصراع بين مخلصين متشنجين ومحافظين غامضين على صينية التحرير، وهو صراع لا يخيفنى رغم عبثيته، ما يخيفنى بشدة هو أن يتحول ملايين الصامتين الكنباويين إلى قوى ثورية مضادة للثورة من باب (يا قاطع قوتى يا ناوى على موتى)، ولا ضمان للنجاة من ذلك السيناريو سوى بإقامة الانتخابات فى موعدها، واحترام إرادة الصندوق.. وإذا كنتم خائفين من تزوير الانتخابات فقاتلوا أمام لجانها لكى لا يحدث ذلك، بدلا من أن تقاتلوا من أجل صينية بلهاء.
تحيا مصر، بس ادوها فرصة.
لــ بلال فضل
عندما يقول لك أحد: مشكلة هذه الثورة أن الثوار لم يحكموا، ولو حكموا لكانت ثورة بحق وحقيق، بالطبع ستعجبك المقولة لأنك محبط من العسكر وأخطائهم، أنت تريد عدالة ناجزة ونظاما جديدا، ومصر مختلفة عن مصر مبارك التى طلعت روحك، وأنت تعيش فيها ربما منذ ولدت، لكن قبل أن تردد هذه المقولة وتتخذها ذريعة لكل ما تراه حولك من أخطاء، بدلا من أن تفكر فى نصيبك من المسؤولية عن بعض هذه الأخطاء.. ألا يجب أن تسأل نفسك: كيف كان يمكن للثوار أن يحكموا؟ أنا آسف، هناك سؤال لا بد أن يسبق ذلك: من هم أصلا الثوار الذين كان يمكن أن يتسلموا الحكم فى حالتنا؟ إذا كنا لم نتفق على إدارة منصة واحدة فى التحرير، فهل كنا سنتفق على حكم دولة؟ تخيل أنه لم يكن هناك لا بيان ألقاه عمر سليمان ولا مجلس أعلى للقوات المسلحة فى حالة انعقاده، ولا شىء من كل ما جرى بعد 11 فبراير، تخيل أن الثوار دخلوا على مبارك وأسرته قصر العروبة، وقاموا بجرهم بالبيجامات إلى السجن لكى يحاكموهم محاكمات ثورية، وقرر الجيش أن يعود إلى ثكناته ويكتفى بمهمته فى الدفاع عن الحدود، تخيل مصر وهى تعيش من غير سلطة تضع يديها على مقاليد الأمور فى الدولة.. أنت متضايق من كل ما حدث فى الشهور الماضية من عنف وانفلات أمنى وجرائم، طيب اضرب كل ذلك فى مئة فى أحسن الأحوال، ستقول لى الآن كلاما عميقا فى ثوريته من نوعية ما احنا كنا عايشين من غير الداخلية، ونقضيها لجان شعبية وكده، طيب عندك حق، نحن فى ثورة والثورة كما تفهمها أنت تغيير جذرى فورى، يعنى لا بد أن يدير الثوار بأنفسهم كل مؤسسات الدولة، وماله، طيب من الذى كان سيوزع المهام ويضبط الإيقاع ويمنع الصراعات؟ يلزمنا رئيس، لن نلجأ طبعا إلى دستور ما قبل الثورة، ونحضر رئيس مجلس الشعب المزور أو رئيس المحكمة الدستورية العليا، سنفعل ما قاله البعض وننتخب مجلسا رئاسيا مدنيا، لكن من سيضم هذا المجلس؟ كيف سنختاره وكيف سنتفق عليه؟ هل سيكون نصيب الإخوان بشعبيتهم، كنصيب حزب معارض صحيفته توزع بالكاد سبعة آلاف نسخة؟ كيف سيتم اتخاذ القرارات، بالأغلبية أم بالإجماع؟ من سيكون رئيس المجلس؟ آه طبعا سنختار رجلا ثوريا رائعا، طيب والشعب ألن تكون له كلمة فى اختيار هذا الرجل وزملائه؟ أم نحن الذين سنختار له لأننا أدرى بمصلحته؟ طيب لنفرض أننا، والحمد لله، كثوار على قلب رجل واحد، ولدينا تصور متطابق لإدارة البلاد، ولدينا كفاءات مؤهلة متناغمة تستطيع أن تحل محل جهاز الدولة العتيق الذى لا يعرف إبليس نفسه دهاليزه؟ ماذا لو لم يتفق رئيس مجلسنا مع زملائه، أو أنهم اتفقوا لكن لم يوفقوا فى عملهم بسبب الصعوبات التى تكتنف أى فترة انتقالية تعقب أى ثورة مثل الاختلال الأمنى والظروف الاقتصادية والخلافات السياسية والاستقطاب الفكرى؟ وبسبب ذلك شعر فريق من الشعب يصل عدده إلى الملايين أو حتى مئات الآلاف أن الوضع لم يعد يحتمل، وخرج إلى الشوارع ليثور على السلطة الثورية التى جابت له الخراب، مطالبا إياها أن ترحل، وحدثت بين الثائرين الجدد والثائرين القدامى مصادمات كالتى شهدتها أغلب الثورات الكبرى، كيف سينتهى الأمر وقتها؟هناك سيناريوهان، السيناريو الأول هو أن ينزل الجيش إلى الشوارع ليفرض عقد انتخابات، لأنه لن يستطيع الحكم بنفسه بسبب الوضع الدولى الذى لن يتعايش مع الحكم العسكرى، وعندها سينتقم الشعب من الثوار مستخدما الديمقراطية التى ثاروا من أجلها. السيناريو الثانى أن نشهد ما يطلق عليه فى تاريخ الثورات ظهور الطاغية الذى تفرضه حالة الفوضى المتداعية، وإذا كان ظهور طاغية مثل نابليون فى مجتمع كالمجتمع الفرنسى استغرق سنوات عديدة، ففى حالة مجتمعنا الذى تحن الملايين فيه إلى أيام الاستقرار الراكد، فإن هذا الطاغية لن يجد صعوبة فى التحالف مع رموز النظام القديم، وفرض نفسه من خلال صناديق الانتخابات، وسيستغل شرعيتها فى ضرب كل من يعارضه، وهنا سيجد الثوار أنفسهم معرضين للمصير الذى يلقاه الثوار عادة فى الثورات الكبرى: غياهب السجون ولا أقول حبال المشانق، فنحن نعيش فى عصر سيجعل ذلك صعبا.
أنا أزعم، وليخطئنى المتخصصون فى تاريخ الثورات أننا محظوظون بشكل مدهش مقارنة بثورات كبرى عديدة، على الأقل حتى الآن، لن يتسع الوقت لمقارنات عديدة، فقط سأسألك هل يمكن أن تقارن ما حدث لدينا من انفلات أمنى بما شهدته لندن فى شغب ثلاثة أيام فقط؟ نعم يمكن أن نتحدث من هنا لغاية الصبح عن أخطاء المجلس العسكرى (تباطؤه فى ملف المحاكمات والقصاص للشهداء، واختياره الأشخاص الخطأ، وإصراره على إبقائهم بشكل مستفز، والمحاكمات العسكرية للمدنيين، والتعامل المفرط فى القسوة مع الثوار، والمعاملة المرفهة للفاسدين، وعدم اتخاذه قرارات حاسمة إلا عقب مليونيات واعتصامات، مما أعطى انطباعا بحتميتها وجعلها وسيلة العمل السياسى الوحيدة لدى الثوار الراغبين فى رؤية إنجاز)، لكن هل سنصلح هذه الأخطاء بالسير قدما فى طريق الصراع، أم أن لدينا طريقا كان ينبغى أن نسير فيه منذ البداية: طريق الديمقراطية التى يخاف البعض من نتائجها، ناسين أن ضمانتها الحقيقية تكمن فى الملايين التى خرجت إلى ميادين التحرير، تلك الملايين التى لم تجتمع إلا على أهداف محددة، فلما غامت الأهداف غابت الملايين، وبقينا أسرى للصراع بين مخلصين متشنجين ومحافظين غامضين على صينية التحرير، وهو صراع لا يخيفنى رغم عبثيته، ما يخيفنى بشدة هو أن يتحول ملايين الصامتين الكنباويين إلى قوى ثورية مضادة للثورة من باب (يا قاطع قوتى يا ناوى على موتى)، ولا ضمان للنجاة من ذلك السيناريو سوى بإقامة الانتخابات فى موعدها، واحترام إرادة الصندوق.. وإذا كنتم خائفين من تزوير الانتخابات فقاتلوا أمام لجانها لكى لا يحدث ذلك، بدلا من أن تقاتلوا من أجل صينية بلهاء.
تحيا مصر، بس ادوها فرصة.
لــ بلال فضل